فصل: فصل: لا تقام الحدود في المساجد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


كتاب الأشربة

الخمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب‏:‏ فقول الله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ وأما السنة‏:‏ فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر‏,‏ وكل خمر حرام‏)‏ رواه أبو داود والإمام أحمد وروى عبد الله بن عمر أن النبي قال‏:‏ ‏(‏لعن الله الخمر‏,‏ وشاربها وساقيها وبائعها‏,‏ ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها‏,‏ وحاملها والمحمولة إليه‏)‏ رواه أبو داود وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر وأجمعت الأمة على تحريمه‏,‏ وإنما حكي عن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب وأبي جندل بن سهيل‏,‏ أنهم قالوا‏:‏ هي حلال لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏}‏ الآية فبين لهم علماء الصحابة معنى هذه الآية وتحريم الخمر وأقاموا عليهم الحد لشربهم إياها‏,‏ فرجعوا إلى ذلك فانعقد الإجماع فمن استحلها الآن فقد كذب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه قد علم ضرورة من جهة النقل تحريمه‏,‏ فيكفر بذلك ويستتاب فإن تاب‏,‏ وإلا قتل روى الجوزجاني بإسناده عن ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر‏,‏ فقال له عمر‏:‏ ما حملك على ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ إن الله عز وجل يقول‏:‏ ‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏}‏ وإنى من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد فقال عمر للقوم‏:‏ أجيبوا الرجل فسكتوا عنه فقال لابن عباس‏:‏ أجبه فقال‏:‏ إنما أنزلها الله تعالى عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم وأنزل‏:‏ ‏(‏إنما الخمر والميسر والأنصاب‏)‏ حجة على الناس ثم سأل عمر عن الحد فيها فقال على بن أبي طالب‏:‏ إذا شرب هذى‏,‏ وإذا هذى افترى فاجلدوه ثمانين فجلده عمر ثمانين جلدة وروى الواقدى أن عمر قال له‏:‏ أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك وروى الخلال بإسناده عن محارب بن دثار‏,‏ أن أناسا شربوا بالشام الخمر فقال لهم يزيد بن أبي سفيان‏:‏ شربتم الخمر‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‏}‏ الآية فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب‏,‏ فكتب إليه‏:‏ إن أتاك كتابي هذا نهارا فلا تنتظر بهم إلى الليل وإن أتاك ليلا‏,‏ فلا تنتظر بهم نهارا حتى تبعث بهم إلى لئلا يفتنوا عباد الله فبعث بهم إلى عمر‏,‏ فشاور فيهم الناس فقال لعلى‏:‏ ما ترى‏؟‏ فقال‏:‏ أرى أنهم قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله فيه فإن زعموا أنها حلال‏,‏ فاقتلهم فقد أحلوا ما حرم الله وإن زعموا أنها حرام‏,‏ فاجلدوهم ثمانين ثمانين فقد افتروا على الله وقد أخبرنا الله عز وجل بحد ما يفترى بعضنا على بعض‏:‏ فحدهم عمر ثمانين ثمانين إذا ثبت هذا فالمجمع على تحريمه عصير العنب‏,‏ إذا اشتد وقذف زبده وما عداه من الأشربة المسكرة فهو محرم‏,‏ وفيه اختلاف نذكره -إن شاء الله تعالى-‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ومن شرب مسكرا قل أو كثر جلد ثمانين جلدة إذا شربها وهو مختار لشربها‏,‏ وهو يعلم أن كثيرها يسكر‏]‏

الكلام في هذه المسألة‏:‏ في فصول‏:‏

الفصل الأول‏:‏

أن كل مسكر حرام قليله وكثيره وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه‏,‏ ووجوب الحد على شاربه وروى تحريم ذلك عن عمر وعلى وابن مسعود‏,‏ وابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص‏,‏ وأبي بن كعب وأنس وعائشة رضي الله عنهم وبه قال عطاء‏,‏ وطاوس ومجاهد والقاسم‏,‏ وقتادة وعمر بن عبد العزيز ومالك‏,‏ والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد‏,‏ وإسحاق وقال أبو حنيفة في عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ وإن لم يذهب ثلثاه‏,‏ ونبيذ الحنطة والذرة والشعير ونحو ذلك نقيعا كان أو مطبوخا‏:‏ كل ذلك حلال‏,‏ إلا ما بلغ السكر فأما عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده‏,‏ أوطبخ فذهب أقل من ثلثيه ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ فهذا محرم‏,‏ قليله وكثيره لما روى ابن عباس عن النبي قال‏:‏ ‏(‏حرمت الخمرة لعينها والمسكر من كل شراب‏)‏ ولنا ما روي ابن عمر‏,‏ قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏كل مسكر خمر وكل خمر حرام‏)‏ وعن جابر قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏ما أسكر كثيره فقليله حرام‏)‏ رواهما أبو داود‏,‏ والأثرم وغيرهما وعن عائشة قالت‏:‏ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام قال‏:‏ وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام‏)‏ رواه أبو داود‏,‏ وغيره وقال عمر رضي الله عنه نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل متفق عليه ولأنه مسكر‏,‏ فأشبه عصير العنب فأما حديثهم فقال أحمد‏:‏ ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح وحديث ابن عباس رواه سعيد عن مسعر عن أبي عون‏,‏ عن ابن شداد عن ابن عباس قال‏:‏ والمسكر من كل شراب وقال ابن المنذر‏:‏ جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها مع عللها وذكر الأثرم أحاديثهم التي يحتجون بها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة‏,‏ فضعفها كلها وبين عللها وقد قيل‏:‏ إن خبر ابن عباس موقوف عليه مع أنه يحتمل أنه أراد بالسكر المسكر من كل شراب‏,‏ فإنه يروى هو وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏

الفصل الثاني‏:‏

أنه يجب الحد على من شرب قليلا من المسكر أو كثيرا ولا نعلم بينهم خلافا في ذلك في عصير العنب غير المطبوخ واختلفوا في سائرها فذهب إمامنا إلى التسوية بين عصير العنب وكل مسكر وهو قول الحسن‏,‏ وعمر بن عبد العزيز وقتادة والأوزاعي‏,‏ ومالك والشافعي وقالت طائفة لا يحد إلا أن يسكر منهم أبو وائل‏,‏ والنخعي وكثير من أهل الكوفة وأصحاب الرأي وقال أبو ثور‏:‏ من شربه معتقدا تحريمه حد ومن شربه متأولا‏,‏ فلا حد عليه لأنه مختلف فيه فأشبه النكاح بلا ولى ولنا ما روي عن النبي أنه قال‏:‏ ‏(‏من شرب الخمر فاجلدوه‏)‏ رواه أبو داود وغيره وقد ثبت أن كل مسكر خمر‏,‏ فيتناول الحديث قليله وكثيره ولأنه شراب فيه شدة مطربة فوجب الحد بقليله كالخمر والاختلاف فيه لا يمنع وجوب الحد فيها بدليل ما لو اعتقد تحريمها وبهذا فارق النكاح بلا ولى ونحوه من المختلف فيه‏,‏ وقد حد عمر قدامة بن مظعون وأصحابه مع اعتقادهم حل ما شربوه والفرق بين هذا وبين سائر المختلف فيه من وجهين أحدهما‏:‏ أن فعل المختلف فيه ها هنا داعية إلى فعل ما أجمع على تحريمه وفعل سائر المختلف فيه يصرف عن جنسه من المجمع على تحريمه الثاني‏:‏ أن السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد استفاضت بتحريم هذا المختلف فيه‏,‏ فلم يبق فيه لأحد عذر في اعتقاد إباحته بخلاف غيره من المجتهدات قال أحمد بن القاسم‏:‏ سمعت أبا عبد الله يقول‏:‏ في تحريم المسكر عشرون وجها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعضها‏:‏ ‏(‏كل مسكر خمر‏)‏ وبعضها‏:‏ ‏(‏كل مسكر حرام‏)‏‏.‏

فصل

وإن ثرد في الخمر‏,‏ أو اصطبغ به أو طبخ به لحما فأكل من مرقته فعليه الحد لأن عين الخمر موجودة‏,‏ وكذلك إن لت به سويقا فأكله وإن عجن به دقيقا ثم خبزه فأكله لم يحد لأن النار أكلت أجزاء الخمر‏,‏ فلم يبق إلا أثره وإن احتقن بالخمر لم يحد لأنه ليس بشرب ولا أكل ولأنه لم يصل إلى حلقه فأشبه ما لو داوى به جرحه‏,‏ وإن استعط به فعليه الحد لأنه أوصله إلى باطنه من حلقه ولذلك نشر الحرمة في الرضاع دون الحقنة وحكى عن أحمد أن على من احتقن به الحد لأنه أوصله إلى جوفه‏,‏ والأول أولى لما ذكرناه - والله أعلم -‏.‏

الفصل الثالث‏:‏

في قدر الحد وفيه روايتان إحداهما‏:‏ أنه ثمانون وبهذا قال مالك والثوري‏,‏ وأبو حنيفة ومن تبعهم لإجماع الصحابة فإنه روى أن عمر استشار الناس في حد الخمر‏,‏ فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ اجعله كأخف الحدود ثمانين فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام وروى أن عليا قال في المشورة‏:‏ إنه إذا سكر هذى‏,‏ وإذا هذى افترى فحدوه حد المفترى روى ذلك الجوزجاني والدارقطني وغيرهما والرواية الثانية‏,‏ أن الحد أربعون وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي لأن عليا جلد الوليد بن عقبة أربعين ثم قال‏:‏ ‏(‏جلد النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين‏)‏ وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلى رواه مسلم ‏,‏ وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين‏)‏ ثم أتى به أبو بكر فصنع مثل ذلك‏,‏ ثم أتى به عمر فاستشار الناس في الحدود فقال ابن عوف‏:‏ أقل الحدود ثمانون فضربه عمر متفق عليه‏,‏ وفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة لا يجوز تركه بفعل غيره ولا ينعقد الإجماع على ما خالف فعل النبي وأبي بكر وعلى رضي الله عنهما‏,‏ فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز فعلها إذا رآه الإمام‏.‏

الفصل الرابع‏:‏

أن الحد إنما يلزم من شربها مختارا لشربها فإن شربها مكرها‏,‏ فلا حد عليه ولا إثم سواء أكره بالوعيد والضرب‏,‏ أو ألجئ إلى شربها بأن يفتح فوه وتصب فيه فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ‏(‏عفي لأمتى عن الخطإ‏,‏ والنسيان وما استكرهوا عليه‏)‏ وكذلك المضطر إليها لدفع غصة بها إذا لم يجد مائعا سواها‏,‏ فإن الله تعالى قال في آية التحريم‏:‏ ‏{‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه‏}‏ وإن شربها لعطش نظرنا فإن كانت ممزوجة بما يروى من العطش أبيحت لدفعه عند الضرورة‏,‏ كما تباح الميتة عند المخمصة وكإباحتها لدفع الغصة وقد روينا في حديث عبد الله بن حذافة أنه أسره الروم‏,‏ فحبسه طاغيتهم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر ولحم خنزير مشوى ليأكله ويشرب الخمر‏,‏ وتركه ثلاثة أيام فلم يفعل ثم أخرجوه حين خشوا موته‏,‏ فقال‏:‏ والله لقد كان الله أحله لي فإنى مضطر ولكن لم أكن لأشمتكم بدين الإسلام وإن شربها صرفا‏,‏ أو ممزوجة بشيء يسير لا يروى من العطش أو شربها للتداوى لم يبح له ذلك‏,‏ وعليه الحد وقال أبو حنيفة‏:‏ يباح شربها لهما وللشافعية وجهان كالمذهبين ووجه ثالث‏:‏ يباح شربها للتداوى دون العطش لأنها حال ضرورة فأبيحت فيها‏,‏ لدفع الغصة وسائر ما يضطر إليه ولنا ما روي الإمام أحمد بإسناده عن ‏(‏طارق بن سويد أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال‏:‏ إنما أصنعها للدواء فقال إنه ليس بدواء‏,‏ ولكنه داء‏)‏ وبإسناده عن مخارق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على أم سلمة وقد نبذت نبيذا في جرة‏,‏ فخرج والنبيذ يهدر فقال‏:‏ ‏"‏ ما هذا‏؟‏ ‏"‏ فقالت‏:‏ فلانة اشتكت بطنها فنقعت لها‏,‏ فدفعه برجله فكسره وقال‏:‏ ‏(‏إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء‏)‏ ولأنه محرم لعينه فلم يبح للتداوي‏,‏ كلحم الخنزير ولأن الضرورة لا تندفع به فلم يبح كالتداوى بها فيما لا تصلح له‏.‏

الفصل الخامس‏:‏

أن الحد إنما يلزم من شربها عالما أن كثيرها يسكر فأما غيره‏,‏ فلا حد عليه لأنه غير عالم بتحريمها ولا قاصد إلى ارتكاب المعصية بها فأشبه من زفت إليه غير زوجته وهذا قول عامة أهل العلم فأما من شربها غير عالم بتحريمها‏,‏ فلا حد عليه أيضا لأن عمر وعثمان قالا‏:‏ لا حد إلا على من علمه ولأنه غير عالم بالتحريم أشبه من لم يعلم أنها خمر وإذا ادعى الجهل بتحريمها نظرنا فإن كان ناشئا ببلد الإسلام بين المسلمين لم تقبل دعواه لأن هذا لا يكاد يخفى على مثله‏,‏ فلا تقبل دعواه فيه وإن كان حديث عهد بإسلام أو ناشئا ببادية بعيدة عن البلدان قبل منه لأنه يحتمل ما قاله‏.‏

فصل

ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين الإقرار أو البينة ويكفى في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم لأنه حد لا يتضمن إتلافا‏,‏ فأشبه حد القذف وإذا رجع عن إقراره قبل رجوعه لأنه حد لله سبحانه فقبل رجوعه عنه كسائر الحدود ولا يعتبر مع الإقرار وجود رائحة وحكى عن أبي حنيفة‏,‏ لا حد عليه إلا أن توجد رائحة ولا يصح لأنه أحد بينتى الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة‏,‏ كالشهادة ولأنه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه ولأنه إقرار بحد فاكتفى به كسائر الحدود‏.‏

فصل

ولا يجب الحد بوجود رائحة الخمر من فيه في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري‏,‏ وأبو حنيفة والشافعي وروى أبو طالب عن أحمد‏,‏ أنه يحد بذلك وهو قول مالك لأن ابن مسعود جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر وروى عن عمر أنه قال‏:‏ إني وجدت من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلاء فقال عمر‏:‏ إني سائل عنه فإن كان يسكر جلدته ولأن الرائحة تدل على شربه‏,‏ فجرى مجرى الإقرار والأول أولى لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء فلما صارت في فيه مجها‏,‏ أو ظنها لا تسكر أو كان مكرها أو أكل نبقا بالغا‏,‏ أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر‏,‏ وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يدرأ بالشبهات وحديث عمر حجة لنا فإنه لم يحده بوجود الرائحة‏,‏ ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر - والله أعلم -‏.‏

فصل

وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد‏,‏ لا حد عليه لاحتمال أن يكون مكرها أو لم يعلم أنها تسكر وهذا مذهب الشافعي ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة يدل على وجوب الحد ها هنا بطريق الأولى لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها‏,‏ فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها وقد روى سعيد حدثنا هشيم حدثنا المغيرة‏,‏ عن الشعبي قال‏:‏ لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي‏,‏ فقال‏:‏ أشهد إني رأيته يتقيؤها فقال عمر‏:‏ من قاءها فقد شربها فضربه الحد وروى حصين بن المنذر الرقاشى قال‏:‏ شهدت عثمان وأتى بالوليد بن عقبة‏,‏ فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أحدهما أنه رآه شربها وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها فقال عثمان‏:‏ إنه لم يتقيأها حتى شربها‏,‏ فقال لعلى‏:‏ أقم عليه الحد فأمر على عبد الله بن جعفر فضربه رواه مسلم وفي رواية فقال له عثمان‏:‏ لقد تنطعت في الشهادة وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم ولم ينكر‏,‏ فكان إجماعا ولأنه يكفى في الشهادة عليه أنه شربها ولا يتقيؤها أو لا يسكر منها حتى يشربها‏.‏

فصل

وأما البينة‏:‏ فلا تكون إلا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه مسكر‏,‏ ولا يحتاجان إلى بيان نوعه لأنه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد وإلى ما لا يوجبه بخلاف الزنا فإنه يطلق على الصريح وعلى دواعيه‏,‏ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏العينان تزنيان واليدان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه‏)‏ فلهذا احتاج الشاهدان إلى تفسيره‏,‏ وفي مسألتنا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الإكراه ولا ذكر علمه أنه مسكر لأن الظاهر الاختيار والعلم‏,‏ وما عداهما نادر بعيد فلم يحتج إلى بيانه ولذلك لم يعتبر ذلك في شيء من الشهادات‏,‏ ولم يعتبره عثمان في الشهادة على الوليد بن عقبة ولا اعتبره عمر في الشهادة على قدامة بن مظعون ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة‏,‏ ولو شهدا بعتق أو طلاق لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا ها هنا‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏فإن مات في جلده‏,‏ فالحق قتله يعني‏:‏ ليس على أحد ضمانه‏]‏

وهذا قول مالك وأصحاب الرأي وبه قال الشافعي إن لم يزد على الأربعين وإن زاد على الأربعين فمات‏,‏ فعليه الضمان لأن ذلك تعزير إنما يفعله الإمام برأيه وفي قدر الضمان قولان أحدهما‏:‏ نصف الدية لأنه تلف من فعلين مضمون‏,‏ وغير مضمون فكان عليه نصف الضمان والثاني‏:‏ تقسط الدية على عدد الضربات كلها فيجب من الدية بقدر زيادته على الأربعين وروى عن على رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت‏,‏ فأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر ولو مات وديته لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يسنه لنا ولنا أنه حد وجب لله‏,‏ فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود وما زاد على الأربعين قد ذكرنا أنه من الحد‏,‏ وإن كان تعزيرا فالتعزير يجب فهو بمنزلة الحد وأما حديث علي‏,‏ فقد صح عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏جلد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعين وأبو بكر أربعين‏)‏ وثبت الحد بالإجماع فلم تبق فيه شبهة‏.‏

فصل

ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في سائر الحدود أنه إذا أتى بها على الوجه المشروع‏,‏ من غير زيادة أنه لا يضمن من تلف بها وذلك لأنه فعلها بأمر الله وأمر رسوله فلا يؤاخذ به ولأنه نائب عن الله تعالى‏,‏ فكان التلف منسوبا إلى الله تعالى وإن زاد على الحد فتلف وجب الضمان بغير خلاف نعلمه لأنه تلف بعدوانه‏,‏ فأشبه ما لو ضربه في غير الحد قال أبو بكر‏:‏ وفي قدر الضمان قولان أحدهما‏:‏ كمال الدية لأنه قتل حصل من جهة الله وعدوان الضارب فكان الضمان على العادى كما لو ضرب مريضا سوطا فمات به ولأنه تلف بعدوان وغيره‏,‏ فأشبه ما لو ألقى على سفينة موقرة حجرا فغرقها والثاني‏:‏ عليه نصف الضمان لأنه تلف بفعل مضمون وغير مضمون فكان الواجب نصف الدية كما لو جرح نفسه وجرحه غيره فمات وبهذا قال أبو حنيفة‏,‏ ومالك والشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر‏:‏ يجب من الدية بقسط ما تعدى به تقسط الدية على الأسواط كلها‏,‏ وسواء زاد خطأ أو عمدا لأن الضمان يجب في الخطإ والعمد ثم ينظر فإن كان الجلاد زاده من عند نفسه بغير أمر فالضمان على عاقلته لأن العدوان منه‏,‏ وكذلك إن قال الإمام له‏:‏ اضرب ما شئت فالضمان على عاقلته وإن كان له من يعد عليه فزاد في العدد ولم يخبره‏,‏ فالضمان على من يعد سواء تعمد ذلك أو أخطأ في العدد لأن الخطأ منه وإن أمره الإمام بالزيادة على الحد‏,‏ فزاد فقال القاضي‏:‏ الضمان على الإمام وقياس المذهب أنه إن اعتقد وجوب طاعة الإمام وجهل تحريم الزيادة‏,‏ فالضمان على الإمام وإن كان عالما بذلك فالضمان عليه‏,‏ كما لو أمره الإمام بقتل رجل ظلما فقتله وكل موضع قلنا‏:‏ يضمن الإمام فهل يلزم عاقلته أو بيت المال‏؟‏ فيه روايتان إحداهما‏:‏ هو في بيت المال لأن خطأه يكثر فلو وجب ضمانه على عاقلته أجحف بهم قال القاضي‏:‏ هذا أصح والثانية‏:‏ هو على عاقلته لأنها وجبت بخطئه‏,‏ فكانت على عاقلته كما لو رمى صيدا فقتل آدميا ويحتمل أن تكون الروايتان إنما هما فيما إذا وقعت الزيادة منه خطأ أما إذا تعمدها‏,‏ فهذا ظلم قصده فلا وجه لتعلق ضمانه ببيت المال بحال كما لو تعمد جلد من لا حد عليه وأما الكفارة التي تلزم الإمام‏,‏ فلا يحملها عنه غيره لأنها عبادة فلا تتعلق بغير من وجد منه سببها ولأنها كفارة لفعله فلا تحصل إلا بتحمله إياها‏,‏ ولهذا لا يدخلها التحمل بحال‏.‏

فصل

ولا يقام الحد على السكران حتى يصحو روى هذا عن عمر بن عبد العزيز والشعبي وبه قال الثوري وأبو حنيفة‏,‏ والشافعي لأن المقصود الزجر والتنكيل وحصوله بإقامة الحد عليه في صحوه أتم فينبغي أن يؤخر إليه‏.‏

فصل

وحد السكر الذي يحصل به فسق شارب النبيذ‏,‏ ويختلف معه في وقوع طلاقه ويمنع صحة الصلاة منه هو الذي يجعله يخلط في كلامه ما لم يكن قبل الشرب‏,‏ ويغيره عن حال صحوه ويغلب على عقله ولا يميز بين ثوبه وثوب غيره عند اختلاطهما‏,‏ ولا بين نعله ونعل غيره ونحو هذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد‏,‏ وأبو ثور وزعم أبو حنيفة أن السكران هو الذي لا يعرف السماء من الأرض‏,‏ ولا الرجل من المرأة ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏)‏ نزلت في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدموا رجلا منهم في الصلاة فصلى بهم وترك في قراءته ما غير المعنى وقد كانوا قاموا إلى الصلاة عالمين بها‏,‏ وعرفوا إمامهم وقدموه ليؤمهم وقصد إمامتهم والقراءة لهم‏,‏ وقصدوا الائتمام به وعرفوا أركان الصلاة فأتوا بها‏,‏ ودلت الآية على أنه ما لم يعلم ما يقول فهو سكران وروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى بسكران فقال‏:‏ ‏"‏ ما شربت‏؟‏ ‏"‏ فقال‏:‏ ما شربت إلا الخليطين وأتى بآخر سكران فقال‏:‏ ألا أبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني ما سرقت‏,‏ ولا زنيت فهؤلاء قد عرفوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واعتذروا إليه وهم سكارى وفي حديث حمزة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- حين غنته قينة وهو سكران‏:‏

ألا يا حمز للشرف النواء ** وهن معقلات بالفناء

وكان على أناخ شارفين له بفناء البيت الذي فيه حمزة‏,‏ فقام إليها فبقر بطونها واجتث أسنمتها فذهب على فاستعدى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا حمزة محمرة عيناه‏,‏ فلامه النبي -صلى الله عليه وسلم- فنظر إليه وإلى زيد بن حارثة فقال‏:‏ وهل أنتم إلا عبيد لأبي فانصرف عنه رسول الله‏,‏ فقد فهم ما قالت القينة في غنائها وعرف الشارفين وهو في غاية سكره ولأن المجنون الذاهب العقل بالكلية يعرف السماء من الأرض والرجل من المرأة‏,‏ مع ذهاب عقله ورفع القلم عنه‏.‏

مسألة

قال ‏[‏ويضرب الرجل في سائر الحدود قائما بسوط لا خلق ولا جديد ولا يمد‏,‏ ولا يربط ويتقي وجهه‏]‏

وقوله‏:‏ في سائر الحدود يعني جميع الحدود التي فيها الضرب وفي هذه المسألة‏:‏ ثلاث مسائل‏:‏ المسألة‏:‏ الأولى‏:‏ أن الرجل يضرب قائما وبه قال أبو حنيفة‏,‏ والشافعي وقال مالك‏:‏ يضرب جالسا رواه حنبل عن أحمد لأن الله تعالى لم يأمر بالقيام ولأنه مجلود في حد فأشبه المرأة ولنا قول على رضي الله عنه‏:‏ لكل موضع في الجسد حظ - يعني في الحد - إلا الوجه والفرج وقال للجلاد‏:‏ اضرب‏,‏ وأوجع واتق الرأس والوجه ولأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب وقوله‏:‏ إن الله لم يأمر بالقيام قلنا‏:‏ ولم يأمر بالجلوس‏,‏ ولم يذكر الكيفية فعلمناها من دليل آخر ولا يصح قياس الرجل على المرأة في هذا لأن المرأة يقصد سترها‏,‏ ويخشى هتكها إذا ثبت هذا فإن الضرب يفرق على جميع جسده ليأخذ كل عضو منه حصته ويكثر منه في مواضع اللحم‏,‏ كالأليتين والفخذين ويتقى المقاتل وهي الرأس والوجه والفرج‏,‏ من الرجل والمرأة جميعا وقال مالك‏:‏ يضرب الظهر وما يقاربه وقال أبو يوسف‏:‏ يضرب الرأس أيضا لأن عليا لم يستثنه ولنا على مالك قول على ولأن ما عدا الأعضاء الثلاثة ليس بمقتل فأشبهت الظهر وعلى أبي يوسف‏,‏ أن الرأس مقتل فأشبه الوجه ولأنه ربما ضربه في رأسه فذهب بسمعه وبصره وعقله‏,‏ أو قتله والمقصود أدبه لا قتله وقولهم‏:‏ لم يستثنه على ممنوع فقد ذكرنا عنه أنه قال‏:‏ اتق الرأس والوجه‏,‏ ولو لم يذكره صريحا فقد ذكره دلالة لأنه في معنى ما استثناه فيقاس عليه‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ أنه لا يمد‏,‏ ولا يربط ولا نعلم عنهم في هذا خلافا قال ابن مسعود‏:‏ ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد وجلد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم ينقل عن أحد منهم مد ولا قيد ولا تجريد ولا تنزع عنه ثيابه‏,‏ بل يكون عليه الثوب والثوبان وإن كان عليه فرو أوجبة محشوة نزعت عنه لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب قال أحمد‏:‏ لو تركت عليه ثياب الشتاء ما بالى بالضرب وقال مالك‏:‏ يجرد لأن الأمر بجلده يقتضي مباشرة جسمه ولنا قول ابن مسعود ولم نعلم عن أحد من الصحابة خلافه‏,‏ والله تعالى لم يأمر بتجريده إنما أمر بجلده ومن جلد من فوق الثوب فقد جلد‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ أن الضرب بالسوط ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا‏,‏ في غير حد الخمر فأما حد الخمر فقال بعضهم‏:‏ يقام بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وذكر بعض أصحابنا أن للإمام فعل ذلك إذا رآه لما روى أبو هريرة ‏(‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتي برجل قد شرب فقال‏:‏ اضربوه قال‏:‏ فمنا الضارب بيده‏,‏ والضارب بنعله والضارب بثوبه‏)‏ رواه أبو داود ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ‏(‏إذا شرب الخمر فاجلدوه‏)‏ والجلد إنما يفهم من إطلاقه الضرب بالسوط ولأنه أمر بجلده‏,‏ كما أمر الله تعالى بجلد الزاني فكان بالسوط مثله والخلفاء الراشدون ضربوا بالسياط‏,‏ وكذلك غيرهم فكان إجماعا فأما حديث أبي هريرة‏:‏ فكان في بدء الأمر ثم جلد النبي -صلى الله عليه وسلم- واستقرت الأمور‏,‏ فقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏جلد أربعين‏)‏ وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وجلد على الوليد بن عقبة أربعين وفي حديث جلد قدامة‏,‏ حين شرب أن عمر قال‏:‏ ائتوني بسوط فجاءه أسلم مولاه بسوط دقيق صغير فأخذه عمر‏,‏ فمسحه بيده ثم قال لأسلم‏:‏ أنا أحدثك إنك ذكرت قرابته لأهلك‏,‏ ائتنى بسوط غير هذا فأتاه به تاما فأمر عمر بقدامة فجلد إذا ثبت هذا فإن السوط يكون وسطا‏,‏ لا جديدا فيجرح ولا خلقا فيقل ألمه لما روي ‏(‏أن رجلا اعترف عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالزنا فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسوط‏,‏ فأتى بسوط مكسور فقال‏:‏ فوق هذا فأتى بسوط جديد لم تكسر ثمرته فقال‏:‏ بين هذين‏)‏ رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلا وروي عن أبي هريرة مسندا وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين وهكذا الضرب يكون وسطا‏,‏ لا شديد فيقتل ولا ضعيف فلا يردع ولا يرفع باعه كل الرفع ولا يحطه فلا يؤلم قال أحمد‏:‏ لا يبدي إبطه في شيء من الحدود يعني‏:‏ لا يبالغ في رفع يده‏,‏ فإن المقصود أدبه لا قتله‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وتضرب المرأة جالسة وتمسك يداها‏,‏ لئلا تنكشف‏]‏

وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي ومالك وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف‏:‏ تحد قائمة‏,‏ كما تلاعن ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ تضرب المرأة جالسة والرجل قائما ولأن المرأة عورة وجلوسها أستر لها ويفارق اللعان فإنه لا يؤدي إلى كشف العورة‏,‏ وتشد عليها ثيابها لئلا ينكشف شيء من عورتها عند الضرب‏.‏

فصل

أشد الضرب في الحد ضرب الزاني ثم حد القذف ثم حد الشرب‏,‏ ثم التعزير وقال مالك‏:‏ كلها واحد لأن الله تعالى أمر بجلد الزانى والقاذف أمرا واحدا ومقصود جميعها واحد وهو الزجر‏,‏ فيجب تساويها في الصفة وعن أبي حنيفة‏:‏ ‏(‏التعزير أشدها ثم حد الزانى ثم حد الشرب‏,‏ ثم حد القذف ولنا‏)‏ أن الله تعالى خص الزانى بمزيد تأكيد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله‏}‏ فاقتضى ذلك مزيد تأكيد فيه ولا يمكن ذلك في العدد‏,‏ فتعين جعله في الصفة ولأن ما دونه أخف منه عددا فلا يجوز أن يزيد عليه في إيلامه ووجعه لأنه يفضي إلى التسوية بينهما أو زيادة القليل على ألم الكثير‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏ويجلد العبد والأمة أربعين‏,‏ بدون سوط الحر‏]‏

هذا على الرواية التي تقول‏:‏ إن حد الحر في الشرب ثمانون فحد العبد والأمة نصفها أربعون وعلى الرواية الأخرى حدهما عشرون نصف حد الحر‏,‏ بدون سوط الحر لأنه لما خفف عنه في عدده خفف عنه في صفته كالتعزير مع الحد ويحتمل أن يكون سوطه كسوط الحر لأنه إنما يتحقق التنصيف إذا كان السوط مثل السوط أما إذا كان نصفا في عدده‏,‏ وأخف منه في سوطه كان أقل من النصف والله تعالى قد أوجب النصف‏,‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏}‏‏.‏

فصل

ولا تقام الحدود في المساجد وبهذا قال عكرمة والشعبي وأبو حنيفة‏,‏ ومالك والشافعي وإسحاق وكان ابن أبي ليلى يرى إقامته في المسجد ولنا ما روي حكيم بن حزام ‏(‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يستقاد في المسجد‏,‏ وأن تنشد فيه الأشعار وأن تقام فيه الحدود‏)‏ وروى عن عمر أنه أتى برجل‏,‏ فقال‏:‏ أخرجاه من المسجد فاضرباه وعن على أنه أتى بسارق‏,‏ فقال‏:‏ يا قنبر أخرجه من المسجد فاقطع يده ولأن المساجد لم تبن لهذا‏,‏ إنما بنيت للصلاة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى‏,‏ ولا نأمن أن يحدث من المحدود حدث فينجسه ويؤذيه وقد أمر الله تعالى بتطهيره فقال ‏{‏وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود‏}‏‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام فقد حرم، إلا أن يغلى قبل ذلك، فيحرم‏]‏

أما إذا غلي العصير كغليان القدر، وقذف بزبده، فلا خلاف في تحريمه وإن أتت عليه ثلاثة أيام ولم يغل، فقال أصحابنا‏:‏ هو حرام‏.‏ وقال أحمد‏:‏ اشربه ثلاثا، ما لم يغل، فإذا أتى عليه أكثر من ثلاثة أيام، فلا تشربه‏.‏ وأكثر أهل العلم يقولون‏:‏ هو مباح ما لم يغل ويسكر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اشربوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرا‏)‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏ ولأن علة تحريمه الشدة المطربة، وإنما ذلك في المسكر خاصة‏.‏ ولنا ما روى أبو داود، بإسناده عن ابن عباس، ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له الزبيب، فيشربه اليوم والغد وبعد الغد، إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيسقى الخدم، أو يهراق‏)‏ وروى الشالنجي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏اشربوا العصير ثلاثا، ما لم يغل‏)‏ وقال ابن عمر‏:‏ اشربه ما لم يأخذه شيطانه‏.‏ قيل‏:‏ وفي كم يأخذه شيطانه ‏؟‏ قال‏:‏ في ثلاث ولأن الشدة تحصل في الثلاث غالبا، وهي خفية تحتاج إلى ضابط، فجاز جعل الثلاث ضابطا لها‏.‏ ويحتمل أن يكون شربه فيما زاد على الثلاثة إذا لم يغل مكروها غير محرم، فإن أحمد لم يصرح بتحريمه، وقال في موضع‏:‏ أكرهه‏.‏ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يشربه بعد ثلاث‏.‏ وقال أبو الخطاب‏:‏ عندي أن كلام أحمد في ذلك محمول على عصير الغالب أنه يتخمر في ثلاثة أيام ‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وكذلك النبيذ‏]‏

يعني‏:‏ أن النبيذ مباح ما لم يغل‏,‏ أو تأتي عليه ثلاثة أيام والنبيذ‏:‏ ما يلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو به الماء وتذهب ملوحته فلا بأس به ما لم يغل‏,‏ أو تأتي عليه ثلاثة أيام لما روينا عن ابن عباس وقال أبو هريرة‏:‏ ‏(‏علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فإذا هو ينش فقال‏:‏ اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر‏)‏ رواه أبو داود ولأنه إذا بلغ ذلك صار مسكرا‏,‏ وكل مسكر حرام‏.‏

فصل

والخمر نجسة في قول عامة أهل العلم لأن الله تعالى حرمها لعينها فكانت نجسة كالخنزير وكل مسكر فهو حرام‏,‏ نجس لما ذكرنا‏.‏

فصل

وما طبخ من العصير والنبيذ قبل غليانه حتى صار غير مسكر كالدبس‏,‏ ورب الخرنوب وغيرهما من المربيات والسكر فهو مباح لأن التحريم إنما ثبت في المسكر‏,‏ ففيما عداه يبقى على أصل الإباحة وما أسكر كثيره فقليله حرام سواء ذهب منه الثلثان أو أقل‏,‏ أو أكثر قال أبو داود‏:‏ سألت أحمد عن شرب الطلاء إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه‏؟‏ قال‏:‏ لا بأس به قيل لأحمد‏:‏ إنهم يقولون‏:‏ إنه يسكر قال‏:‏ لا يسكر‏,‏ ولو كان يسكر ما أحله عمر‏.‏

فصل

ولا بأس بالفقاع وبه قال إسحاق وابن المنذر ولا أعلم فيه خلافا لأنه لا يسكر وإذا ترك يفسد‏,‏ بخلاف الخمر والأشياء على الإباحة ما لم يرد بتحريمها حجة‏.‏

فصل

ويجوز الانتباذ في الأوعية كلها وعن أحمد‏,‏ أنه كره الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الانتباذ فيها والدباء‏:‏ وهو اليقطين والحنتم‏:‏ الجرار والنقير‏:‏ الخشب والمزفت‏:‏ الذي يطلى بالزفت والصحيح الأول لما روى بريدة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهن نهيتكم عن الأشربة أن لا تشربوا إلا في ظروف الأدم‏,‏ فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا‏)‏ رواه مسلم وهذا دليل على نسخ النهي ولا حكم للمنسوخ‏.‏

فصل

ويكره الخليطان‏,‏ وهو أن ينبذ في الماء شيئان ‏(‏لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخليطين‏)‏ وقال أحمد‏:‏ الخليطان حرام وقال في الرجل ينقع الزبيب والتمر الهندى والعناب ونحوه‏,‏ ينقعه غدوة ويشربه عشية للدواء‏:‏ أكرهه لأنه نبيذ ولكن يطبخه ويشربه على المكان وقد روى أبو داود بإسناده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه ‏(‏نهى أن ينبذ البسر والرطب جميعا‏,‏ ونهى أن ينبذ الزبيب والتمر جميعا‏)‏ وفي رواية‏:‏ وانتبذ كل واحد على حدة ‏"‏ وعن أبي قتادة قال ‏(‏نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجمع بين التمر والزهو والتمر والزبيب‏,‏ ولينبذ كل واحد منهما على حدة‏)‏ متفق عليه قال القاضي‏:‏ يعني أحمد بقوله‏:‏ هو حرام إذا اشتد وأسكر وإذا لم يسكر لم يحرم وهذا هو الصحيح - -إن شاء الله تعالى- - وإنما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلة إسراعه إلى السكر المحرم فإذا لم يوجد‏,‏ لم يثبت التحريم كما أنه عليه السلام نهى عن الانتباذ في الأوعية المذكورة لهذه العلة ثم أمرهم بالشرب فيها‏,‏ ما لم توجد حقيقة الإسكار وقد دل على صحة هذا ما روى عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏كنا ننبذ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنأخذ قبضة من تمر‏,‏ وقبضة من زبيب فنطرحها فيه ثم نصب عليها الماء‏,‏ فننبذه غدوة فيشربه عشية وننبذه عشية‏,‏ فيشربه غدوة‏)‏ رواه ابن ماجه وأبو داود فلما كانت مدة الانتباذ قريبة وهي يوم وليلة‏,‏ لا يتوهم الإسكار فيها لم يكره ولو كان مكروها لما فعل هذا في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- له فعلى هذا لا يكره ما كان في المدة اليسيرة‏,‏ ويكره ما كان في مدة يحتمل إفضاؤه إلى الإسكار ولا يثبت التحريم ما لم يغل أو تمضى عليه ثلاثة أيام

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏والخمرة إذا أفسدت‏,‏ فصيرت خلا لم تزل عن تحريمها وإن قلب الله عينها فصارت خلا‏,‏ فهي حلال‏]‏

روي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال الزهري ونحوه قول مالك وقال الشافعي‏:‏ إن ألقي فيها شيء يفسدها كالملح فتخللت فهي على تحريمها‏,‏ وإن نقلت من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس فتخللت ففي إباحتها قولان وقال أبو حنيفة‏:‏ تطهر في الحالين لأن علة تحريمها زالت بتخليلها فطهرت‏,‏ كما لو تخللت بنفسها يحققه أن التطهير لا فرق فيه بين ما حصل بفعل الله تعالى وفعل الآدمي كتطهير الثوب والبدن والأرض ونحو هذا قول عطاء‏,‏ وعمرو بن دينار والحارث العكلى وذكره أبو الخطاب وجها في مذهبنا فقال‏:‏ وإن خللت لم تطهر وقيل‏:‏ تطهر ولنا ما روي أبو سعيد‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت المائدة سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت‏:‏ يا رسول الله‏,‏ إنه ليتيم‏؟‏ قال‏:‏ أهريقوه‏)‏ رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن أنس قال‏:‏ ‏(‏سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنتخذ الخمر خلا‏؟‏ قال‏:‏ لا‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح ورواه مسلم وعن أبي طلحة ‏(‏أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أيتام ورثوا خمرا‏؟‏ فقال‏:‏ أهرقها قال‏:‏ أفلا أخللها‏؟‏ قال‏:‏ لا‏)‏ رواه أبو داود وهذا نهى يقتضي التحريم ولو كان إلى استصلاحها سبيل لم تجز إراقتها‏,‏ بل أرشدهم إليه سيما وهي لأيتام يحرم التفريط في أموالهم ولأنه إجماع الصحابة فروى أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر‏,‏ فقال‏:‏ لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله تعالى هو تولى إفسادها ولا بأس على مسلم ابتاع من أهل الكتاب خلا ما لم يتعمد لإفسادها‏,‏ فعند ذلك يقع النهي رواه أبو عبيد في ‏"‏ الأموال ‏"‏ بنحو من هذا المعنى وهذا قول يشتهر لأنه خطب به الناس على المنبر فلم ينكر فأما إذا انقلبت بنفسها فإنها تطهر وتحل‏,‏ في قول جميعهم فقد روى عن جماعة من الأوائل أنهم اصطبغوا بخل خمر منهم على وأبو الدرداء‏,‏ وابن عمر وعائشة ورخص فيه الحسن وسعيد بن جبير وليس في شيء من أخبارهم أنهم اتخذوه خلا‏,‏ ولا أنه انقلب بنفسه لكن قد بينه عمر بقوله‏:‏ لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله هو يتولى إفسادها ولأنها إذا انقلبت بنفسها‏,‏ فقد زالت علة تحريمها من غير علة خلفتها فطهرت‏,‏ كالماء إذا زال تغيره بمكثه وإذا ألقى فيها شيء تنجس بها ثم إذا انقلبت بقي ما ألقى فيها نجسا‏,‏ فنجسها وحرمها فأما إن نقلها من موضع إلى آخر فتخللت من غير أن يلقى فيها شيئا فإن لم يكن قصد تخليلها‏,‏ حلت بذلك لأنها تخللت بفعل الله تعالى فيها وإن قصد بذلك تخليلها احتمل أن تطهر لأنه لا فرق بينهما إلا القصد فلا يقتضي تحريمها ويحتمل أن لا تطهر لأنها خللت‏,‏ فلم تطهر كما لو ألقى فيها شيء‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏والشرب في آنية الذهب والفضة حرام‏]‏

هذا قول أكثر أهل العلم وحكى عن معاوية بن قرة أنه قال‏:‏ لا بأس بالشرب من قدح فضة وحكى عن الشافعي قول أنه مكروه غير محرم لأن النهي لما فيه من التشبه بالأعاجم فلا يقتضي التحريم ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏الذي يشرب في آنية الفضة‏,‏ إنما يجرجر في بطنه نار جهنم‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا‏,‏ ولكم في الآخرة‏)‏ أخرجهما البخاري ومقتضى نهيه التحريم وقد توعد عليه بنار جهنم فإن معنى قوله‏:‏ ‏"‏ تجرجر في بطنه نار جهنم ‏"‏ أي هذا سبب لنار جهنم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا‏}‏ فلم يبق في تحريمه إشكال وقد روى أن حذيفة استسقى فأتاه دهقان بإناء من فضة‏,‏ فرماه به فلو أصابه لكسر منه شيئا ثم قال‏:‏ إنما رميته به لأننى نهيته عنه وذكر هذا الخبر وهذا يدل على أنه فهم التحريم من نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى استحل عقوبته‏,‏ لمخالفته إياه‏.‏

فصل

ويحرم اتخاذ الآنية من الذهب والفضة واستصناعها لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال‏,‏ كالطنبور والمزمار ويستوى في ذلك الرجال والنساء لعموم الحديث ولأن علة تحريمها السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء وهذا معنى يشمل الفريقين‏,‏ وإنما أبيح للنساء التحلى للحاجة إلى التزين للأزواج فتختص الإباحة به دون غيره فإن قيل‏:‏ لو كانت العلة ما ذكرتم لحرمت آنية الياقوت ونحوه مما هو أرفع من الأثمان قلنا‏:‏ تلك لا يعرفها الفقراء‏,‏ فلا تنكسر قلوبهم باتخاذ الأغنياء لها لعدم معرفتهم بها ولأن قلتها في نفسها تمنع اتخاذها فيستغنى بذلك عن تحريمها‏,‏ بخلاف الأثمان‏.‏

مسألة

قال‏:‏ ‏[‏وإن كان قدح عليه ضبة فشرب من غير موضع الضبة فلا بأس‏]‏

وجملة ذلك أن الضبة من الفضة تباح بثلاثة شروط أحدها‏:‏ أن تكون يسيرة الثاني‏:‏ أن تكون من الفضة‏,‏ فأما الذهب‏:‏ فلا يباح وقليله وكثيره حرام وروي عن أبي بكر أنه رخص في يسير الذهب الثالث‏:‏ أن يكون للحاجة‏,‏ أعنى أنه جعلها لمصلحة وانتفاع مثل أن تجعل على شق أو صدع وإن قام غيرها مقامها وقال القاضي‏:‏ ليس هذا بشرط‏,‏ ويجوز اليسير من غير حاجة إذا لم يباشر بالاستعمال وإنما كره أحمد الحلقة ونحوها لأنها تباشر بالاستعمال وممن رخص في ضبة الفضة سعيد بن جبير‏,‏ وميسرة وزاذان وطاوس‏,‏ والشافعي وأبو ثور وابن المنذر‏,‏ وأصحاب الرأي وإسحاق وقال‏:‏ قد وضع عمر بن عبد العزيز فاه بين ضبتين ‏,‏ وكان ابن عمر لا يشرب من قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة منها وكره الشرب في الإناء المفضض على بن الحسين وعطاء وسالم‏,‏ والمطلب بن عبد الله بن حنطب ونهت عائشة أن يضبب الآنية أو يحلقها بالفضة ونحو ذلك قول الحسن‏,‏ وابن سيرين ولعل هؤلاء كرهوا ما قصد به الزينة أو كان كثيرا أو يستعمل‏,‏ فيكون قولهم وقول الأولين واحدا ولا يكون في المسألة‏:‏ خلاف فأما اليسير‏:‏ كتشعيب القدح ونحوه‏,‏ فلا بأس ولأن ‏(‏النبي -صلى الله عليه وسلم- كان له قدح فيه سلسلة من فضة شعب بها‏)‏ رواه البخاري بمعناه ولأن ذلك يسير من الفضة فأشبه الخاتم وكره أحمد أن يباشر موضع الضبة بالاستعمال فلا يشرب من موضع الضبة لأنه يصير كالشارب من إناء فضة‏,‏ وكره الحلقة من فضة لأن القدح يرفع بها فيباشرها بالاستعمال وكذلك ما أشبهه‏.‏

فصل

ولا بأس بقبيعة السيف من فضة لما روى أنس‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏كانت قبيعة سيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضة‏)‏ رواه الأثرم وأبو داود والترمذي‏,‏ وقال‏:‏ حديث حسن وقال هشام بن عروة‏:‏ كان سيف الزبير محلى بالفضة أنا رأيته ولا بأس بالخاتم من الفضة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان له خاتم من فضة ثم لبسه أبو بكر‏,‏ ثم عمر ثم عثمان حتى سقط منه في بئر أريس وصح ذلك عنهم وقال سعيد‏:‏ البس الخاتم‏,‏ وأخبر إني أفتيتك بذلك فقد روى أبو ريحانة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كره عشر خلال وفيها الخاتم إلا لذى سلطان‏,‏ قال أحمد‏:‏ إنما هذا يرويه أهل الشام وحدث أحمد بحديث أبي ريحانة فلما بلغ الخاتم‏:‏ تبسم كالمتعجب ثم قال‏:‏ أهل الشام وإنما قال أحمد ذلك لأن الأحاديث قد صحت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- واستفاضت بإباحته‏,‏ وأجمع عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم من العلماء فإذا جاء حديث شاذ يخالف ذلك لم يعرج عليه‏,‏ وإن صح ذلك حمل على التنزية‏.‏

فصل

قال الأثرم‏:‏ قيل لأبي عبد الله‏:‏ الحلية لحمائل السيف‏؟‏ فسهل فيها وقال‏:‏ قد روى سيف محلى ولأنه من حلية السيف‏,‏ فأشبه القبيعة ولذلك يخرج في حلية الدرع والمغفر والخوذة والخف والران ولأنه في معناه وقيل‏:‏ لأبي عبد الله‏:‏ حلقة المرآة فضة ورأس المكحلة فضة وما أشبه هذا‏؟‏ قال‏:‏ كل شيء يستعمل مثل حلقة المرآة‏,‏ فأنا أكرهه لأنه يستعمله فإن المرآة ترفع بحلقتها ثم قال‏:‏ إنما هذا تأويل تأولته أنا‏.‏

فصل

ولا يباح شيء من ذلك إذا كان ذهبا إلا أنه قد روى أنه تباح قبيعة السيف قال أحمد‏:‏ قد روى أنه كان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب وروى الترمذي بإسناده عن مزيدة العصري‏,‏ قال ‏(‏دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة‏)‏ وقال‏:‏ هذا حديث غريب ولا يباح الذهب في غير هذا إلا لضرورة كأنف الذهب وما ربط به أسنانه‏,‏ إذا تحركت وقال أبو بكر‏:‏ يباح يسير الذهب قياسا له على الفضة لكونه أحد الثمنين فأشبه الآخر وقد ذكرنا هذا في غير هذا الموضع‏.‏